الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

أنا لستُ .. أنا لست بكرًا .. مجموعة قصصية



في أحضان الكُتب :
                             
                                 أنا لست بكرًا - ميسرة الهادي

* الرابعية المُقدسة :


فكّر معي أيها القاريء العزيز، في كِتاب يهديه صاحبه إلي :
" إلي كُل شرفاء العالمِ الذين لم ينتحروا بعد، هذا إن كان باقيًا في هذا العالمِ شرف!"
ثم يختمه بعبارة للروسي القدير أنطون تشخيوف :
" حين أكتب عن أشياء مُحزنةِ، لا أريدكم أن تبكوا، بل أريدكم أن تعملوا علي تَغييرِ مقاديير تلك الأشياء ".
و قبل هذا و ذلك عنوان المجموعة القصصية أصلاً، المُكونة من قصص ما بين الطويلة والقصيرة - هذا بالمفهومِ هُنا لا هنالك في الغرب، الذي من الممكنِ أن تصلَ القصة عندهم إلي ما وراء سبعين صفحة، أليس مونرو مِثالاً- وهي
 " أنا لست بكرًا "، أليس العنوانُ لوحده، لحاله، صدمةً؟
ثم رابعًا الموقف المذكور في ظهرِ الكِتابِ، المُستخرج استخراجًا من قلب القصة الحاملة لنفس عنوان الكِتاب.

هل أنت مُتخيل ما أنت مُقبل عليه يا عزيزي القاريء؟
هل أنت مُتصور ما قد يُلق بين يديك من حكاوي وأقاصيص ؟
لذا هييء نفسك واستعد، هييء روحك لتلقي جُرعة مُكثفة من كافكاوية قاتمة، جُرعة سوداوية حالكة لن تستطع أن تهربَ منها.
فلعلك قُلت في عقلِ بالك أنّه ربما قصة أو ثنتان و ستفرح، تسعد، تبتهج، ترفرف وتطير في الفضاء فتملك الدُنيا بين يديك، ولكن صدقني كل ذلك ما لا سيحدث أبدًا، مطلقًا، نهائيًا، كلاً البتة، فإذا وصلت لنيرفانا الفرح ستهوي إلي حضيض الجحيم، مثل بروميثوس الذي يظل فرحًا طيلة الليل، قبل أن يأتِ إليه النهار بالنسر فينهش كبده ثم يتجدد من جديد في الدُجي.

* الأحشاء :

القصة القصيرة هي من أعقد الفنون الأدبية المُحتاجة إلي اقتناص للحظة المُتحدث عنها، تكثيفها في إطار مُحدد حتي تستطيع أن تبرز داخله بالطبعِ مع استخدام أدوات السرد الأُخري المُتاحة.
 بل و القصة كذلك فن يشتمل علي كُل الفنون الأخري في نفس ذات الوقتِ، وهذا قد وضح وبشدة في المجموعة القصصية المُكونة من خمسة عشرة قصة سوداوية.
ففي المجموعة رائحة الرواية من حيث الحدث وتعدد الشخصيات كما في قصة
 " أوركيدا السعادة" و التي تستطيع أن تضع لها عنوان كبير بالعامية
" محدش عاجبه حاله "، فهي قصة مهندس يعمل جرسون في قاعة أوركيدا السعادة، يتمني خراب المكان أو أن يعمل مكان عامل الدي جي الذي يتمني أن يعمل مكان الجرسون أو صاحب الكاميرا، أو صاحب الكاميرا الذي يريد نقود أكثر ليهرب إلي الخارج و مدير القاعة الذي يبرر معاملته الخشنة للكل واحتقاره لهم بسبب أكل العيش، وأنّه سيطرد الكل لأنه يأس منهم، ستُشاهد صراع مرير بين شخصيات تعمل في طياتها من التعقيد ما تحمله.

ستري في المجموعة مقومات المسرح من حيث الحوار و دقة اللفظة، وإن كان الحوار هُنا أغلبه صامت، لأنه يدور داخل الشخصيات، داخل أعماق، وإن لفظت فبحساب، فبمقدار موزون و مضبوط .

و ستري أن فيها المقال و ما داخل أعماقه من منطقية السرد وهذا قد  وضح في كُل القصص تقريبًا، وإن كان قد تجلي في قصة " الفصل الأخير من مذكرات وطن " المٌفجعة، والتي يتحدث فيها عن ممارسات السلطة الأمنية، الشرطة، علي عم عبد الفتاح بائع عربة الفول، ثم ابنه سالم الذي يأخذ حق والده المضروب منهم، فيُشعل النار في نفسه، و يحتضن الضابط الذي نكّل بوالده فيموت، فيُتهم سالم بأنه كان مدمن للهيروين، وأن هذا الظابط " شهيد" !

من جماليات القصص رغم ما فيها، أنّ فيها قصة معنونة بـ " غربان المساء" و هي مُصدره بآية من الذكر الحكيم، لقصة العجل عند سيدنا موسي، و القصة علي لسان أحد المُتشككين، الذين كانوا يريدون المعرفة الحقة، ولكنّه يشرب ويموت في النهاية، التعليق هُنا عزيزي القاريء علي أن هذا جيد في ألا نترك المادة الدسمة في التراث العربي والإسلامي للغرب أن ينبش فيه، فنحن ها هُنا قادرون علي أن نكتبها بحرفة وصناعة و " مَعلَمَةُ " كما فعل العم توفيق الحكيم عندما كتب أهل الكهف أو ميسرة الهادي عندما كتب " غربان المساء " .

اللغة في القصص كُلها، راقية، سلسلة، لا بها غرابة لفظة، أو أنّه حتي يتباهي بما لديه من معجم لغوي، وإنّما اللغة جاءت خادمة للقصص كلها، خادمة للسرد، خادمة لكل حرف، حتي إستعمال اللهجة العامية علي لسان بعض الشخصيات والذي كان علي استحياء،كان هادئًا، لا فيه ضجيج أو عجيج، و إنما لفظات مُنتقاة من البيئة بعناية تامة، فالكاتب أحوذي بطبعه.

* الضوء الساطع :

لابد أن نوجه أنظارنا ناحية القصة المعنونة بها المجموعة وهي " أنا لست بكرًا" المحتوية علي كمية من التناقضات داخل شخوصها لا حصر لها، و دعني أُخرجَ من ذهنك الالتباس الذي بالطبع قد وقعت فيه من جراء إسم المجموعة أو القصة، فالبنت المُتحدث عنها في القصة بنت بنوت – كما نقول في العامية المصرية- ولكن الذي جعلها ذلك هو أنّه بينما كانت راكبة الدراجة، إذ بها تقع من عليها فيحدث لها شرخ في عُضوها التناسلي، والذي كان هذا تزامنًا مع ولجها الدورة الشهرية وانتقالها من مرحلة الطفولة إلي الأنوثة الغضة، فيتقدم لها شاب عن  طريق معارف أمه، فيُوافَق عليه، ولكن البنت قلقة، خائفة، لابد أن تقول لخطيبها عن هذا الفعل، فقدمت له شهادة الطبيبة التي تقول بأن ما بها كان بسبب الحادث لا أمر آخر، فيظل الخطيب المأفون الأحمق الجاهل هذا يفكر ويتركها في النهاية.

التعليق هُنا علي موقف أخت الخطيب عندما علمت ووقوفها جوار البنت، لأنها أحست بما تمر فيه من معاناة.
الخطيب نفسه الجاهل، الذي لم يعف عن الفتاة التي لم تفعل أي شيء، و الذي هو لم يعف نفسه برغم ما فعله من أفاعيل مع البنت التي كان يُحبها ثم تركها لأنّه المحظور بينهما كاد أن يقع، وهو لن يتجوز بمن أخطأ معها.
الأم التي أنهت القصة بعبارة سمجة، ستكاد معها أن تطعن هذه الأم لو كانت واقفة أمامك بقولها :
" الحمد لله تخلصنا منهم .. غدًا أزوجك ست ستها وتكون بنت محترمة، وأنا حسابي مع التي دلتني عليهم "

ما أعقد هذه النفس البشرية الخبيثة التي تتلقي ما يلق هواها اللعين- أحيانًا - ؟

* نظرة أخيرة :

ولا أقول أن القصة موقوفة علي هذه القصص التي تحدثت عنها لك عزيزي القاريء، وإنما فقط أوقفت الكلام عن البقية حتي تستشعر أنت اللذة، و تصل إلي نشوة الإستمتاع دوني.

القصص مكتوبة وكان عُمر الكاتب آنذاك ما بين العشرين والاثني و العشرين، ولكنني لم أشعرْ بذلك مطلقًا، أبدًا، نهائيًا، بل لم أضعه من الأساس في بؤرة تفكيري، فأنا أمام كاتب متمكن من أدواته.
 فلا غرو أنّ رواية " ميسرة الهادي" التي تلت ذلك وهي " النحت في صخور الألماس " قد فازت بالمركز الأول لجائزة دبي الثقافية التي كانت تقيمها مجلة دُبي، يوم أن كانت المجلة تري نور الشمس !.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق